البَكْرةُ والبَكَرَةُ بسكونِ الكافِ أو بفتحِها .. لُغتانِ للعربِ وهي خشبةٌ مستديرةٌ بوسطها تجويف يُلَفُّ عليهِ حبلٌ وبداخلِها محورٌ تدورُ حولَه ... عرَفها العربُ في حياتِهم .. وألِفوها في بلادِهم .. واستخدموها في معاشِهم .. وعوَّلوا عليها في مصالحِهم .. فبيئتُهم بيئةُ الآبارِ لا الأنهار .. ومصادرُ مياهِهم هي الجوفيةُ لا السطحية .. ومستوى المياهِ في الأرضِ بعيد .. يحتاج إخراجُه إلى جُهدٍ جهيد .. لذا استعانوا بالبكرة يعلَّقُ فيها الدَّلْوُ ثم يُدَلّى في الماء .. ثم يُسحَبُ ليشربَ البشر .. ويرتوي الحيوان واطيرُ والطير والشجر .. وسبحان من خلق كلَّ شيءٍ بقَدَر ...
ولقد عرَفَ البكرةَ يقظةً ومناما .. مَن رفعَه اللهُ مقاما .. وبعثه للناس إماما .. وأمرنا أن نديم عليه صلاةً وسلاما .. ففي حياته رآها في قومِه .. وشاهدها في باديتِه .. واستقى بها ومنها .. فهي عنده معروفة .. ولديه مألوفة .. بل ومحبوبةٌ وموصوفة .. وفي منامِه يراها رَأْيَ العَيان .. تَرْمزُ لحقائقَ ومعان .. ورؤيا الأنبياءِ حقٌ فلا سبيلَ عليها للشيطان ..
قال -صلى اللهُ عليه وسلم- : أُرِيتُ في المنامِ أني أَنزِعُ بدلوِ بَكْرَةٍ على قَلِيب (أي أخرج الماء من بئرٍ في دلوٍ معلقٍ ببكرة) قال : فجاء أبو بكرٍ فنزع ذَنوباً أو ذَنوبين نزعاً ضعيفاً .. والله يغفرُ له .. ثم جاء عمرُ بنُ الخطابِ فاستحالت غَرْباً ( أي عَظُم الدَّلْوُ في يدِه ) فلم أر عبقرياً يَفري فرِيَّه (أي يعمل عملَ) حتى روِيَ الناسُ وضرَبوا بِعَطَن ( أي شبِعتْ إبلُهم ونامتْ مكانَها ) رواه البخاري .. ولقد أُوِّلت حالُ عمرَ بنِ الخطابِ -رضي اللهُ عنه- في هذه الرؤيا الكريمةِ وقوتُه الهائلة ونزْعُه الشديد بالفتوح العظيمة في عهده الميمون .
بل كان -صلى اللهُ عليه وسلم- يعلم الصحابةَ -رضوانُ اللهِ عليهم- تعظيمَ حُرْمةِ المدينةِ والمحافظةَ عليها ورعايةَ قدْرِها كما أخبر جابرُ بنُ عبدِ اللهِ -رضي الله عنه- : إن كان رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- لينهانا أن نقطعَ المسدَ ومِرْوَدَ البكَرة ( رواه ابنُ حِبَّان ) حقاً هي مدرسةٌ .. أستاذُها محمد .. وتلاميذُها الأصحاب .. مكانُها المدينة .. وزادُها السَّكينة .. ونورُها القرآن .. فصلاة الله على ساكنِها ماترنم طيرٌ وتحرك لسان.